
تشهد العلاقات الأميركية الإيرانية تصعيداً حذراً مع عودة ملف المفاوضات النووية إلى الواجهة، وسط تباين في المواقف بشأن شكل اللقاء المنتظر. ففي حين ترغب واشنطن في مفاوضات مباشرة، تتمسك طهران بالحوار غير المباشر عبر وسطاء، أبرزهم سلطنة عُمان، التي تستعد لاستضافة جولة جديدة من المشاورات.
تأسيسا على ما سبق، يحاول هذا التحليل طرح عدد من الأسئلة، أهمهم: هل يتم إبرام اتفاق نووي بين إيران والولايات المتحدة فى ضوء مباحثاتهما السبت المقبل 12 من أبريل الجاري في سلطنة عُمان ؟، وهل ستكون مفاوضات مباشرة كما قالت واشنطن أم أنها غير مباشرة كما شددت طهران على أن تمسكها بالمفاوضات غير المباشرة خيار استراتيجي؟.
وعليه، تحاول التساؤلات السابقة في ظل تصاعد حرب التصريحات المتبادلة بين المسئولين من الجانبين، تفسير شكل المفاوضات المنتظرة بين الطرفين ومستقبل العلاقة بين البلدين، خاصة أن البيت الأبيض استبق لقاء عمان بالتأكيد على أن المحادثات مع إيران ستكون مباشرة، وأنه ستكون هناك عواقب وخيمة إذا لم تختر طهران الدبلوماسية، كما أكد- البيت الأبيض، أن الرئيس دونالد ترامب فرض عقوبات مشددة على إيران وأوضح أن أمامها خيار التوصل لاتفاق أو دفع ثمن باهظ .
وتأكيدًا على الموقف الأمريكي المتشدد، قالت وزارة الخارجية الأميركية، إن تركيز واشنطن حاليًا ينصب “ضمن سياستنا تجاه إيران وهي منعها من امتلاك سلاح نووي، وما سيحدث في عُمان ليس مفاوضات بل محادثات لاستكشاف ما يمكن تحقيقه .وفي السياق، نقلت صحيفة “وول ستريت جورنال” عن مستشار الأمن القومي الأميركي قوله إن “أي اتفاق جديد يجب ألا يمكن إيران من تخصيب اليورانيوم، ولا نريد تكرار الجهود الفاشلة لإدارة (الرئيس السابق جو) بايدن لإحياء الاتفاق النووي، كما أننا عازمون على إجراء مفاوضات مباشرة لتجنب محادثات مطولة”.
الموقف الإيراني:
في المعسكر المقابل، قال وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في مقال نشرته “واشنطن بوست” إن “الاتفاق النووي قد لا يعجب ترامب، لكننا نلتزم فيه بعدم حيازة سلاح نووي، وعلينا أولا أن نتفق على استحالة وجود خيار عسكري وترامب يدرك ذلك”. كما لوح عراقجي بأن “أي صراع سيكلف أضعاف ما أحرقه أسلاف ترامب في أفغانستان والعراق، وسيمتد عبر المنطقة، ويكلف تريليونات من أموال دافعي الضرائب. وأقر الوزير بأن “الأمور تسوء مع الإصرار الأميركي على سياسة الضغط الأقصى، ونحن نواجه جدارًا كبيرًا من انعدام الثقة، ولدينا شكوك في صدق النية”، معتبرا أن “المفاوضات غير المباشرة مع الأميركيين تمثل فرصة بقدر ما هي اختبار”.
ورغم هذا المنحى التشاؤمي، قال عراقجي “مستعدون للعمل بجدية من أجل اتفاق وسنلتقي في سلطنة عمان السبت لإجراء مفاوضات غير مباشرة، ونحن نعتبر الاتصالات محاولة جادة لتوضيح المواقف وفتح آفاق جديدة للدبلوماسية، كما أن خيار التفاوض غير المباشر ليس تكتيكا أو انعكاسا لأيديولوجية بل خيار استراتيجي. بينما أعلن الرئيسُ الأمريكي دونالد ترمب، في اللقاء الذي جمعهُ، مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، أن الولايات المتحدة ستُجري حواراً مُباشراً على مستوىً عالٍ مع مسؤولين إيرانيين يوم السبت الـ 12 من أبريل. وعلى الرغم من أنّ الجانب الإيراني نفى أنْ تكون المفاوضاتُ مع واشنطن مُباشرةً، فإنه أكّد لقاءَ السبت، مُبيِّناً على لسان وزير الخارجية عبّاس عراقجي أنّ مسقط ستَستضيفُ هذا الحوار الذي سيكونُ “غيرَ مُباشرٍ”، وأنّ “الكُرة باتت الآن في ملعب الولايات المتحدة”.
عقبات متعددة:
يُشكِّلُ هذا الحوارُ الثنائيّ بين طهران وواشنطن، انتكاسةً لفكرة المفاوضات الموسّعة التي طالبت بها أطرافٌ إقليميّةٌ في فترة الرئيس جو بايدن، التي أكدت أنها ترفُض مخرجات أيّ حوارٍ لا يُشْرِكُها في التّفاصيل والنتائج. ومن منطلق أنَّها مفاوضات ثنائية بين إيران والولايات المتحدة، فإن من الوارد جدّاً أنْ تُقدّم واشنطن مُبادراتٍ سريعة لتعبيد الطريق أمام التّوصُّل للاتفاق المنشود في خلال المهلة الزمنيّة المحدودة المتوافرة أمام المفاوضين. ويُساعدها في ذلك، أنّ العقوبات في المرحلة الراهنة ليست سوى عقوبات فرضتها الإدارة الأمريكية نفسها، لأن العقوبات الدولية مُؤجّلة بموجب نصّ الاتفاق النووي حتى أكتوبر المقبل على أقلّ تقدير.
ويمثل جُلوس الجانبين؛ الأمريكي والإيراني، على طاولةِ حوارٍ مُباشرٍ، أو غيرِ مُباشرٍ، تطوراً كبيراً، وفتحاً لعُقدَةٍ مُستعصيةٍ. لكنّه لا يعني الوصول إلى برّ الأمان، كما لا يعني أنّ الطّريق مُعبّدةٌ وسهلةٌ أمام الجانبين للتوصُّل إلى اتفاقٍ سَلِسٍ؛ إذْ ثمّةَ عقباتٍ يمكن أنْ يضعها آخرون في طريق المفاوضات، ومنها: “آلية الزناد” التي يتضمّنها نصّ الاتفاق النووي، والتي تمنحُ المشاركين في الاتّفاق حقّ تفعيلها، لإعادة العقوبات الدولية على إيران من دون الحاجة إلى تصويت “مجلس الأمن”. وكان من المفترض أنْ يُستخدَم التلويحُ بتفعيل “آليّة الزناد” من أجل الضّغط على إيران، وإلزامها بالحضور إلى مفاوضاتٍ تُشارِكُ فيها أطرافٌ أوروبيّةٌ إلى جانب الولايات المتحدة. لكنّ تغييب الثلاثي الأوروبي عن مفاوضاتِ مسقط، قد يخلِطُ الأوراق على هذا الصّعيد. ويَبقى من الوارد أنْ تلجأ الأطرافُ الممتعضة – بمن فيها إسرائيل – إلى الثلاثي الأوروبي، مُطالبةً إياهُ بتفعيل “آلية الزّناد”، وذلك بُغية الضغط على موقف الولايات المتحدة، لإضافة ملفاتٍ أُخرى للحوار الذي تُجريه مع إيران.
علاوةً على ذلك، ثمَّة هوّة شاسِعةٌ بين ما تريده إيران، وبين ما تُريده الولايات المتحدة. وبغضّ الطّرف عن المنظور الاستراتيجي الذي يحكُم الرؤية الإيرانيّة، تسعى طهران في هذه المرحلة إلى خوض مفاوضاتٍ تؤول إلى حُلول مرحليّة، وتطمعُ في أنْ تحصل على حوافِز سريعةٍ من الجانب الأمريكي، تتمثّلُ في إلغاء بعضِ العُقوبات المؤثرة. وهذا ما أعلنه الإيرانيون في أكثر من مُناسبةٍ، كان آخرُها موقفُ وزير الخارجية الذي أكّد أنّ إيران تطلبُ عربون “حُسْن نوايا” من الجانب الأمريكي. لكنْ على الجانب الأمريكي، يُعلِنُ مسؤولو إدارة ترمب أنّهم لن ينزلقوا إلى فخِّ مُفاوضاتِ استنزافٍ، كتلك التي انزلق إليها الديمقراطيون وإداراتهم. ويؤكّدُ المسؤولون الجمهوريُّون اليوم، أنهم يريدون حواراً سريعاً، يُفضي بشكلٍ عاجلٍ إلى النتائج التي يرجونها، وهي: إنهاءُ البرنامج النووي الإيراني، بشكلٍ كاملٍ على الأقلّ، إنْ لم يكُن بالإمكان التوصُّلُ إلى اتفاقٍ شاملٍ يُنهي الملفات الخلافيّة العالقة كافّة.
ومن المؤكّد أنّ الإدارة الأمريكية ستلجأ في مفاوضاتها الراهنة مع إيران إلى مُمارسة تكتيك “الحوار تحت الضغط”، وإجراء المفاوضات بالتزامُن مع استمرار التصعيد الميداني، والتلويح بالقضاء على البرنامج النووي الإيراني عبر القصف. وممّا يدفع الإدارة الأمريكيّة – ويدفع الجانب الإيراني كذلك – إلى الإسراع في التوصُّل إلى نتائج ملموسة في هذه المفاوضات، هو قُربُ انتهاء أجل الاتفاق النووي الذي سينقضي في غُضون ستّة أشهر؛ ما يستوجبُ التفكير في بدائل له في غُضون شهرين أو ثلاثة.
مواقف مؤثرة:
ولا تزالُ المؤسسات الثورية في داخل إيران غير مقتنعةٍ بفكرة الحوار مع الولايات المتحدة. ومن الواضح أنّ قرار الذهاب إلى مسقط، اُتُّخِذَ على مضَضٍ. ولذلك فهو قرارٌ هشٌّ، على الرغم من رغبة الحكومة الإيرانيّة الإصلاحية-المعتدلة في تطبيقه وإنجاحه. ولعلّ أهمّ عقبةٍ سيتعيّنُ على حكومة الرئيس مسعود بزشكيان مواجهتها في الدّاخل، هي عقبة مُعارضة البرلمان الإيراني الذي أقرّ قبل عامين قانوناً يمنعُ التّنازل عن الإنجازات النووية التي تحققت لإيران بعد خروج الولايات المتحدة من الاتفاقية النووية لعام 2015. ويهيمنُ المحافظون على البرلمان الإيراني الحالي، وفيه كتلة برلمانيّة مُتشددةٌ للغاية، من المتوقع أنْ تُعرقِل مسارَ التوصُّل إلى اتفاقٍ سريع وسَلِسٍ. وثمّةَ حرب هيمنةٍ على القرار السياسي تجري في إيران، بين البرلمان وبين الحكومة، تزيدُ من تعقيد الأمور، وتضعُ عقباتٍ على طريقِ أيّ اتفاق من شأنه أنْ يدعم سطوة الحكومة على المشهد السياسي. وتطالبُ تلك القوى الثورية بضرورة إخضاع الاتفاق لإرادة البرلمان، لتكريس ظاهرة سطوة البرلمان على القرار السياسي الإيراني.
في المقابل، لن يكون الرئيس ترامب اللاعب الوحيد في المشهد السياسي الأمريكي، المؤثّر في هذه المفاوضات؛ ففي الدوائر السياسية الأمريكية هناك كتلةٌ كبيرةٌ من الجمهوريين، والديمقراطيين لا يحبذون فكرة التوافق الهشّ، أو التوافق المنقوص مع الجانب الإيراني. وأظهرَ هؤلاءِ مُؤخّراً تحرُّكاً لمنع تنازُل الولايات المتحدة، من طريق مشروعِ قانونٍ يتبنّاه الحزبان، ويُلزِمُ الإدارة الأمريكية بمُمارسة أقصى الضُّغوط على النّظام الإيراني، ودعم المُعارضين، ومن طريق مشاريع قوانين أخرى تُعزّز هيمنة البرلمان الأمريكي على مسار التعامل مع الملف الإيراني. ومن المرجح أنْ تلجأ الأطراف المُمتعِضة من قرار الانخراط في مفاوضات ثنائية إلى تلك اللوبيّات المتشدّدة، لردع الرئيس ترامب الذي قد لا يرغبُ بخوض مُشادّات مع حاضنته البرلمانية في ظلّ الضغوط التي تُواجهها إدارته بسبب السياسات الاقتصادية.
ولا يمكنُ الحديث عن نجاعة الحوار بين إيران والولايات المتحدة، حتى إذا كان مُباشراً، من دونِ تذليلِ تلك العقبات الواقعيّة، خُصوصاً في ضوء الهوّة الشاسعة بين ما تُفكّر فيه إيران، وما تبتغيه واشنطن من هذه المفاوضات؛ فأقصى ما تفكّر فيه إيران، هو العودة إلى بعضِ التزاماتِ الاتفاق النووي، مُقابلَ الحُصول على ما هو أكثر وأسرع ممّا حصلت عليه في ذلك الاتفاق، بينما تُريدُ واشنطن القضاء على برنامج إيران النووي بالكامل، وتجاوزه إلى خطوات ميدانيّة في ملفات خلافيّة أخرى.
ومع كل هذا التشاؤم فإنّ لجوء الجانبين الأمريكي والإيراني إلى حوارٍ ثنائيّ، من دون وسيطٍ حقيقيّ – حيثُ لا تمثّل عُمان دور الوسيط بمقدار ما تمثّل دور المستضيف – يبقى تطوُّراً مهماً. وقد يُفضِي إلى نتائجَ ميدانيّة بالغة الأهمية. وهو يُثيرُ مخاوف مُتعدّدة أيضاً، على رأسها تغييبُ الأطرافِ الإقليمية والدولية من مُجرياتِ الحوار. وبالتأكيد، فإن هذا ليس خبراً جيّداً لتلك الأطراف.
وفى النهاية، يمكن القول إنه من المؤكد أنْ الوصولُ إلى الاتفاق المنشودِ لن يكون سهلاً وسريعاً، حتى إذا افترضنا أنّ الجانبين يبذلان كُلَّ جهودهما للتوصُّل إلى اتفاقٍ سريعٍ، وأنّهما قادران على جَسْر الهوّة الشاسِعة جدّاً بين رؤيتيهما، وأنّ اقتصار الحوار عليهما من دون الأطراف الأخرى سيُساعدهما في ذلك. إذْ لا بُدّ لكُلٍّ منهما ابتداءً، من التنسيق مع الحُلفاء، خصوصاً على الجانب الإيراني الذي لا يُمكنه المُغامرة بفقدانِ دعم حليفَيْه الشّرقيَّيْن. كما لا بُدّ لكُلٍّ منهما من التفكير في سُبُلٍ لمواجهة الاعتراضات الداخليّة، والعوائق القانونيّة والسياسية التي فرضها، ويفرضها الجدل الدّاخلي بشأن هذه المفاوضات. وكُلُّ ذلك ممّا يحُدُّ من التفاؤل بشأن نتيجةٍ سريعةٍ وحاسمةٍ للمفاوضات.